29 - 06 - 2024

إيقاع مختلف | دماؤكم عليكم حرام

إيقاع مختلف | دماؤكم عليكم حرام

(أرشيف المشهد)

14-10-2011 | 08:28

"والله أشد الفيشة" جاءتنى الكلمات واضحة ساطعة مفهومة المعنى إلى حد الرعب ، لكننى راوغت الفهم ، وأجبت بلون من التغافل : نعم لا بأس فى مثل هذه الحالة بأن ينزع الإنسان (فيشة التليفزيون) ليريح عقله وقلبه قليلا من هذا الألم الذى يفوق الاحتمال ، وهذا الغباء الذى يفوق الجنون، لكن الكلمات جاءتنى هذه المرة أشد سطوعا، لا تترك لى فرصة لممارسة التغافل أو ادعاء عدم الفهم "والله أشد فيشة عقلى حتى ينفصل عن كل هذا الجنون الذى يفوق القدرة على الاحتمال".

أظن أن هذا الحوار القصير كان تجسيدا موجعا لحال قطاع كبير من المثقفين المصريين الذى تابعوا أحداث الأحد الدامى أو ما اصطلح على تسميته (أحداث ماسبيرو).

وأخطر ما فى هذا الموقف أنه ينذر بانهيار أهم ما أنجزته ثورة يناير على المستوى الشعورى وهو الإحساس بأن (البلد بلدنا) ، نعم فقد كانت كل المحاولات العبثية السابقة لإحياء مفهوم الانتماء تصطدم بواقع يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن البلد ليس بلدنا وأنه مسلوب منا أمام أعيننا ، وهو ما فتح المجال واسعا أمام علماء الاجتماع ليتحدثوا عن ظواهر عدة تتمحور حول مفهوم (الأنا ما لية).

وما إن حدث الزلزال الثورى الينايرى حتى استرد المصريون بلدهم ، والأهم أنهم استردوا يقينهم بأن البلد كان وسيظل بلدهم حتى لو تعرض فى مرحلة بعينها للتغييب أو السطو الممنهج، وأنهم معنيون بكل ما يجرى فيه وكل ما يجرى له وكل ما يجرى عليه.

لكن الحوار الذى جاء فى مفتتح هذا المقال أشعرنى بلون من الرعب الحقيقى مخافة أن يتسرب الوطن من بين أيدى المصريين شيئا فشيئا ، وأن يتسرب انتماؤهم له من قلوبهم درجة فدرجة.

هناك إجماع على أن ما حدث هو الأخطر منذ اندلاع الثورة، لكن هناك انقساما حادا فى المواقف، البعض يرى أن الأهم الآن هو التحقيق فى الأمر تحقيقا شفافا وفرز المواقف وتحديد المسئوليات بكل دقة أيا كانت النتيجة، وأن هذه هى الضمانة الوحيدة لعدم تكراره، وأن فكرة تطييب الخواطر أو تسوية السطح بينما القلب يغلى لا يمكن لها أن تصمد ، وهناك من يؤكد أن الأهم هو احتواء الموقف وتجاوز هذا المنحنى المروع الذى تمر به الثورة المصرية اليوم، وأن الانغماس فى فرز تفاصيل الحدث –على نبله ومبدئيته- يمكن أن يتسبب فى مزيد من الخطر على المسيرة الثورية بل وعلى مصر ذاتها، وأن اقتلاع جذور ما جرى وإزالة أسبابه أهم كثيرا من الغرق فى تفصيلاته، وبالطبع لا هذا ولا ذاك مستعد لقبول منطق الآخر ولا حتى الإنصات إليه.

من ناحية أخرى هناك أحاديث متداخلة ومشتبكة ومختلطة  عن (الانتهازية السياسية) وعن (المؤامرات الداخلية والخارجية) وعن (التشبث بالسلطة وممارسة القمع) وعن (الاستقواء بالخارج) وعن (التربص بالوطن) وعن الحاجة إلى إعادة تحديد مفاهيم (المواطنة، والمساواة، والمسئولية، والوطنية) وعن (الدور الواجب للإعلام الحقيقى النزيه) وكلها قضايا غاية فى الاشتباك والالتباس والتداخل لكنها فى الوقت ذاته قابلة للفهم بشرط أن تخلص النوايا وأن تتجرد الإرادات.

خطورة تشابك هذه الأحاديث أنها يمكن أن تفقد البعض رغبته فى أن يتابع الانغماس فى محاولات الفهم ، لكن الأخطر على الإطلاق هو الدم، نعم دماء المصريين التى سالت على أرض مصر دون غاية أو ثمن هى أخطر ما شهدته الأيام السابقة، وهى أعظم وأجل من كل المبررات الساذجة التى تساق لتبريرها.

لذلك فلابد أن نتوجه بالكلمات إلى المصريين جميعا وفى مقدمتهم –دون أدنى شك أو مواربة - الجيش المصرى الذى يتحمل مجلسه الأعلى مسئولية مضاعفة لكونه مسئولا عن هذه المرحلة بالغة الحساسية والدقة والخطورة .

أيها المصريون ... دماؤكم - التى ترخصونها فى الدفاع عن أرض الوطن أو حريته - عليكم حرام ... دماؤكم عليكم حرام ...  دماؤكم حرام. دماؤكم عليكم حرام

مقالات اخرى للكاتب

جِيل من الصور الطلِيقَة





اعلان